تسعى قوى "8 مارس" -خاصة حزب الله- المؤيدة للمحور الإيراني إلى التقارب مع نظام بشار الأسد، ودفع الدولة اللبنانية إلى إقامة علاقات سياسية واقتصادية معه بشكل مباشر، الأمر الذي لقي اعتراضًا من قوى "14 مارس"، خاصة حزب القوات اللبنانية المناوئ لسوريا، وذلك لأن محاولات حزب الله تستهدف إخراج النظام السوري من عزلته إقليميًّا ودوليًّا، وإعادة تواجده في الداخل اللبناني، وتعزيز التعاون الاقتصادي معه كمدخل لإقامة علاقات استراتيجية أشمل.
ومن المُرجّح أن يسفر أي تقارب مع نظام بشار الأسد عن تعميق الخلافات في الداخل اللبناني، وصولاً إلى أزمة سياسية قد تطال مؤسساتها الدستورية، بالإضافة إلى تشديد العقوبات الأمريكية على حزب الله بهدف الإضرار بالاقتصاد اللبناني، أو حتى وقف الدعم العسكري الخارجي للجيش اللبناني، كما أن الزج بلبنان في المعترك الإقليمي الحالي كداعم للمحور الإيراني قد يسفر عن استهدافها عسكريًّا من إسرائيل، خاصة وأنها معقل لحزب الله.
وقد سعت بعض القوى السياسية في لبنان -مؤخرًا- للتقارب والتنسيق مع نظام بشار الأسد بهدف إعادة العلاقات السياسية معه، وذلك بعد تأكيد وزير الصناعة "حسين الحاج حسن" (ممثل لحزب الله في الحكومة اللبنانية) تلقيه دعوة هو ووزير الزراعة "غازي زعيتر" (ممثل حركة "أمل" في الحكومة اللبنانية)، من وزير الاقتصاد والتجارة السوري للمشاركة في معرض دمشق الدولي خلال الفترة من 17/26 من الشهر الجاري، مصرحًا: "سأشارك في المعرض كوزير صناعة لإجراء محادثات.. هناك بعض نقاط تحتاج معالجة على صعيد التجارة والصناعة بين البلدين.. العلاقات بين لبنان وسوريا قائمة سياسيًّا ودبلوماسيًّا، ولدينا سفير ولديهم سفير"، علمًا بأن هناك 14 شركة لبنانية ستشارك في الجناح اللبناني الذي تنظمه وزارة الصناعة في المعرض.
وتجدر الإشارة إلى أنه في حال ذهاب أي وزير إلى المعرض المشار إليه، فستكون هذه الزيارة الأولى لوزير لبناني إلى سوريا منذ اندلاع النزاع المسلح في 2011.
وقد أثارت التصريحات السابقة موجة من الاعتراضات في الداخل اللبناني، خاصة من القوى المناوئة للمحور الإيراني "قوى 14 مارس"، وقابلتها موجة مضادة تؤيد التواصل مع سوريا.
مواقف رافضة:
1- أكد رئيس حزب القوات اللبنانية "سمير جعجع" (في مؤتمر صحفي عُقد في 10 أغسطس الجاري) أن أي زيارة رسمية لوزير لبناني لسوريا ستهزّ الاستقرار السياسي الداخلي، والاستقرار الأمني والعسكري، وسيُصنف لبنان فورًا في خانة المحور الإيراني، مما يجلب للبنان مزيدًا من العقوبات ومزيدًا من الحصار.
2- أشار عضو كتلة "المستقبل" النيابية "عمار حوري" (في حديثه لإذاعة "صوت لبنان") إلى أنّ موضوع التنسيق الأمني بين لبنان وسوريا قائم منذ مدّة، لكن بالنسبة للتنسيق السياسي، فهذه نقطة حدّدها خطاب القسم والبيان الوزاري تحت عنوان النأي بالنفس، وأنّ إعادة فتح الموضوع تعني إعادة هزّ التوافق الوطني، وهي خطوة ستزيد الأمور تعقيدًا وستُحدث انقسامًا وتوترات جديدة لبنان في غنى عنها.
3- علّق عضو كتلة الكتائب النيابية "نديم الجميل" على مشاركة وزراء لبنانيين في معرض دمشق الدولي، بأن هناك قرارًا استراتيجيًّا إقليميًّا لتطبيع لبنان مع المحور السوري الإيراني، وأن كل شيء في البلد يسير على نمط حزب الله، والحكومة تغطي صفقات، مما يدفع الدولة للدخول في نفق مظلم يومًا بعد يوم.
4- أكد عضو "اللقاء الديمقراطي" النائب "أنطوان سعد" (في حديثه لإذاعة "الفجر" يوم 10 أغسطس الجاري) أن مسألة ذهاب الوزراء إلى سوريا هي خروق دستورية، وتجاوز لسيادة لبنان، وعلى هؤلاء الوزراء ألا يذهبوا بصفتهم الوزارية ولا ممثلين لها، أما ذهابهم على المستوى الشخصي فهذا شأنهم، مشيرًا إلى أن طرح هذا الموضوع الآن يهدف إلى تآمر البعض لإعادة لبنان إلى حضن النظام السوري.
مواقف مؤيدة:
1- أكد رئيس البرلمان "نبيه بري" (أثناء لقاء الأربعاء النيابي يوم 9 أغسطس الجاري) أن هناك علاقات دبلوماسية واتفاقيات بين البلدين، وأن المراحل كلها أثبتت أن هذا التواصل والتعاون هو أمر طبيعي ولمصلحة البلدين.
2- صرح وزير الشباب والرياضة "محمد فنيش" (ممثل حزب الله في الحكومة اللبنانية) بأنه لا يحقّ لفريق واحد اتخاذ القرار، لافتًا إلى أنه ليس غريبًا أن يقوم وزير لبناني بزيارة سوريا، انطلاقًا من العلاقات الدبلوماسية والاتفاقات القائمة، وبالتالي لا يحقّ لأي جانب أن يعترض.
3- رد وزير الخارجية اللبناني "جبران باسيل" (رئيس التيار الوطني الحر) على المعارضين لزيارة وزراء حزب الله وحركة أمل إلى سوريا، بأن هناك علاقات قائمة بين سوريا ولبنان، مشيرًا إلى أن لبنان قامت بتعيين سفير لبنانيّ في سوريا منذ فترة.
محددات حاكمة:
تتمثل أهم أسباب قوى 8 مارس الداعية للتواصل مع سوريا في التالي:
1- إخراج النظام السوري من عزلته بالمنطقة، وذلك عبر الترويج بأن نظام بشار الأسد لا يزال هو المسيطر على مجريات الأمور في سوريا، وهو القوة الشرعية الوحيدة التي يجب التعامل معها، كما تتعامل معها العديد من الدول بالمنطقة وعلى رأسها إيران والعراق، وأن أفول القوى الأخرى بسوريا يدعو للاستجابة للتعامل مع نظام الأسد، وأن لبنان ستكون هي الدولة المبادرة بهذا الأمر بالمرحلة المقبلة، خاصة وأن الدولتين تربطهما العديد من المشتركات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
2- إعادة إنتاج الحضور السوري في لبنان، وهو الأمر الذي تتحسب منه العديد من القوى السياسية، خاصة تيار المستقبل، وحزب القوات اللبنانية الذي حذرت مصادر فيه من أن النظام السوري كان له وجود سلبي في لبنان في 3 حقبات أساسية، سواء حقبة الحرب اللبنانية، أو حقبة احتلاله للبنان، وحقبة محاولة عودته إليه عن طريق التدخل العملياتي عبر تفجيرات طالت الوزير "ميشال سماحة"، ومن خلال تفجيرات المسجدَين في طرابلس، وبما يبرز أن هناك رغبة دائمة من النظام السوري في التغلغل في لبنان، وأن قوى 8 مارس تمهد لهذا الأمر.
3- تعزيز التعاون الاقتصادي السوري اللبناني، خاصة في مجال الطاقة، ومن دلالات ذلك ما أُثير عن توقيع وزير المال اللبناني "علي حسن خليل" اتفاقية مع الحكومة السورية -مؤخرًا- لتزويد لبنان بالكهرباء بـ300 ميجاواط وبتكلفة نحو 400 مليار ليرة لبنانية. وفي السياق نفسه، أكد وزير الكهرباء السوري "محمد زهير خربوطلي" أن "سوريا مستمرة في تزويد الدولة اللبنانية بالكهرباء"، وبما يدفع الدولة اللبنانية لزيادة الاعتماد على سوريا، الأمر الذي يدعم من تعزيز العلاقات الاقتصادية مستقبلاً بين الدولتين، في إطار محاولة الانتقال من العلاقات الاقتصادية إلى علاقات استراتيجية أشمل.
تأثيرات انتشارية:
هناك مجموعة من التداعيات بشأن التواصل مع نظام بشار الأسد على الدولة اللبنانية، على نحو ما توضحه النقاط التالية:
1- زيادة الخلافات السياسية الداخلية، وذلك نتيجة سياسة المحاور الإقليمية التي تُلقي بتداعياتها على لبنان، حيث ينقسم المشهد السياسي الداخلي بين "قوى 14 مارس" المناوئة للمحور الإيراني السوري، و"قوى 8 مارس" المؤيدة لذلك المحور، وبالتالي ترفض الأولى أي تعاون مع إيران أو سوريا، بينما يسعى حزب الله إلى زيادة التواجد الإيراني السوري في لبنان، وهو الأمر الذي أسفر عن مشاحنات في الجلسة الوزارية التي عُقدت في 9 أغسطس الجاري، وتم التأكيد فيها على مبدأ النأي بالنفس، خوفًا من اندلاع خلاف بين عناصر مجلس الوزراء قد تؤدي إلى شلل بالمجلس، مما دفع المجلس إلى إقرار بأنه إذا أراد أي وزير زيارة سوريا فعليه أن يذهب بصفة شخصية وليس بصفة رسمية.
2- فرض عقوبات ووقف الدعم العسكري للبنان، ترى عدة مصادر لبنانية أن ذهاب أي وزير لبناني بصفة رسمية إلى أي محفل رسمي ينظمه نظام بشار الأسد يُعتبر اعترافًا لبنانيًّا رسميًّا بالنظام السوري المحاصر عربيًّا ودوليًّا، وهو ما قد يوقع لبنان تحت طائلة العقوبات، ومنها تشديد العقوبات الأمريكية على حزب الله بشكل يطال المصارف والاقتصاد اللبناني، أو حتى وقف المساعدات والدعم الذي تقدمه الدول الغربية للبنان، خاصة المساعدات العسكرية من الجانبين الأمريكي والأوروبي، وهو الأمر الذي سيضر بالدولة اللبنانية، خاصة في حربها ضد الإرهاب.
3- إدراج لبنان في التسوية الإقليمية، إن محاولات الزج بلبنان في الأزمة السورية يميل إلى جعلها ورقة ضغط في يد طهران ودمشق وموسكو تجاه دول المنطقة والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأنها جارة لإسرائيل التي باتت تتحسب من تنامي قوى ونفوذ حزب الله في المنطقة، الأمر الذي سيزيد من قوى الممانعة في المنطقة، مما سيزيد من استهداف الدولة اللبنانية عسكريًّا من قبل إسرائيل، واقتصاديًّا من قبل المجتمع الدولي، خاصة الولايات المتحدة، علمًا بأن هشاشة الدولة اللبنانية وعدم استقلاليتها سيجعلها أولى الدول التي سيتم التضحية بها حين التوصل إلى تسوية إقليمية.